
لحظة ضعف لا تستحق أن تكون النهاية
بقلم / رضوى البدري
يُعد الانتحار من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات في العصر الحديث، حيث لا يؤثر فقط على الفرد الذي يقدم عليه، بل يمتد تأثيره إلى أسرته والمجتمع ككل. ومع تزايد الضغوط النفسية والاجتماعية، أصبحت معدلات الانتحار في ارتفاع مستمر، مما يستدعي تسليط الضوء على أسبابه، وتأثيره، وسبل الوقاية منه، خاصةً أن التعامل مع هذه الظاهرة لا يكون فقط من خلال التوعية، بل عبر بناء بيئة صحية آمنة تحترم الإنسان وتسانده.
تختلف أسباب الانتحار بين العوامل النفسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث يُعد الاكتئاب والاضطرابات النفسية من أبرز العوامل التي تدفع الأشخاص إلى الإقدام على الانتحار، فغالبًا ما يشعر المصابون بالاكتئاب بالعزلة واليأس وفقدان الأمل في المستقبل، مما يجعلهم يعتبرون الانتحار الحل الوحيد للهروب من معاناتهم. كما أن الضغوط الاقتصادية مثل البطالة والفقر، إضافة إلى المشكلات الأسرية والتنمر في محيط الدراسة أو العمل، كلها تترك أثرًا عميقًا في النفس وتزيد من شعور الإنسان بالإحباط والعجز، ما يجعله عرضة للانهيار النفسي.
ولا يمكن إغفال تأثير الأحداث الصادمة التي قد يتعرض لها الإنسان، مثل فقدان شخص عزيز أو التعرض للعنف الجسدي أو النفسي، فهذه التجارب القاسية قد تترك جروحًا عميقة في النفس، وإذا لم يتم التعامل معها بشكل صحي وداعم، فإنها قد تتطور إلى اضطرابات نفسية حادة، تدفع الشخص إلى التفكير في إنهاء حياته، ظنًا منه أن ذلك هو الخلاص الوحيد من الألم.
ومن أخطر ما يرتبط بهذه الظاهرة هو التعاطف الكبير مع المنتحر، والذي قد يؤدي دون قصد إلى تطبيع الفكرة في أذهان الآخرين ممن يعانون من مشكلات مشابهة، مما يزيد من احتمالية تكرارها. فرغم أن التعاطف مع معاناة الآخرين قيمة إنسانية نبيلة، إلا أن الأهم هو أن نوجّه هذا التعاطف في الاتجاه الصحيح، نحو دعم من ما زالوا على قيد الحياة ويحتاجون إلى من يسمعهم ويمدّ لهم يد المساعدة، بدلًا من ترسيخ فكرة أن الهروب هو الحل. فالحياة هبة من الله، والضيق مهما اشتد فهو مؤقت، بينما الانتحار نهاية دائمة ومأساوية يمكن تجنبها بالدعم النفسي والاجتماعي المناسب.
الانتحار لا يترك أثره على المنتحر فقط، بل يترك وراءه قلوبًا مكسورة وأرواحًا محطمة من أسرته وأصدقائه، الذين يعيشون صدمة نفسية قد تستمر لسنوات، ويتولد لديهم شعور عميق بالذنب والحزن، وقد يعانون من الاكتئاب أو اضطرابات نفسية هم أيضًا. وبالتالي، فإن الانتحار لا يسرق حياة واحدة فقط، بل قد يدمر حياة عائلة كاملة.
في ضوء كل ما سبق، فإن تزايد معدلات الانتحار يشكل تحديًا خطيرًا أمام المجتمعات، حيث يؤدي إلى فقدان أفراد كان يمكن أن يكون لهم دور فاعل في بناء المجتمع وتقدمه، كما ينعكس سلبًا على الاستقرار الاجتماعي والنفسي والاقتصادي، ويؤشر على وجود فجوات كبيرة في نظم الدعم النفسي والرعاية المجتمعية.
وللحد من هذه الظاهرة، لا بد من تفعيل خدمات الصحة النفسية وجعلها متاحة وسرية وآمنة لكل من يحتاجها، مع أهمية توعية الناس بأن طلب المساعدة ليس ضعفًا، بل شجاعة وقوة. ويجب كذلك تعزيز ثقافة الحوار والانفتاح داخل الأسرة والمدرسة والعمل، وتشجيع الأفراد على الحديث عن مشاعرهم ومشكلاتهم، بدلًا من كبتها حتى تنفجر في لحظة ضعف.
كما تلعب وسائل الإعلام دورًا محوريًا في نشر الوعي والتوعية بالعلامات المبكرة للأزمات النفسية، والتشجيع على الدعم النفسي بدلًا من تصوير المنتحر كضحية وحيدة. كذلك، فإن المدارس والمؤسسات المجتمعية عليها مسؤولية نشر ثقافة التفاهم والاحتواء، وتقديم الدعم النفسي خصوصًا في مراحل المراهقة والشباب.
في النهاية، الانتحار ليس مجرد قرار فردي عابر، بل هو نتاج سلسلة من الضغوط والمآسي التي يمكن معالجتها قبل الوصول إلى الحافة. وخلق بيئة مجتمعية حاضنة وداعمة، تحترم الإنسان وتُشعره بالأمان والانتماء، هو الضمان الحقيقي لتقليل هذه الظاهرة المؤلمة، وإنقاذ أرواح قد تكون على وشك الانهيار، لكنها ما زالت قابلة للنجاة.
Average Rating